خطاب حميدتي الأخير- اعتراف بالخذلان ومحاولة يائسة لقلب الموازين

المؤلف: المسلمي الكباشي10.07.2025
خطاب حميدتي الأخير- اعتراف بالخذلان ومحاولة يائسة لقلب الموازين

جاء خطاب قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي ألقاه مساء الأربعاء، التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، متبايناً بشكل ملحوظ عن خطاباته السابقة التي اعتاد توجيهها للجمهور منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان الفائت. ففي حين تميزت الخطابات السابقة بمسحة سياسية واضحة، وصياغة تحمل في طياتها أهدافًا وغايات ورسائل سياسية ذات وجهة محددة، تجرد الخطاب الأخير من هذا الطابع، وكأن العقل السياسي الذي كان يقف خلفه، يبلور الأفكار ويصوغ الكلمات، قد تخلى عنه فجأة. هكذا، جاء الخطاب الأخير باهتاً، يفتقر إلى أي رؤية متماسكة أو أفكار مترابطة مقدماتها مع نتائجها.

ومن الأمثلة على ذلك، تصريحه بأنه "يرفض الاتفاق الإطاري الموقع في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022″، بل وهدد صانعيه بأنه "سيفجر حربا". بيد أن هذا الرفض، الذي لم يسمع به أحد من قبل، لم يمنعه من التوقيع على الاتفاق، ولم يحُل دون دفاعه المستميت عنه منذ التوقيع وحتى وقت قريب، ولم يثنه عن حشد الأنصار والداعمين والتحريض عليه وحمايتهم بكل ما أوتي من قوة.

وعلى الرغم من إدراكه المُسبقة بأن الاتفاق الإطاري سيؤدي إلى اندلاع حرب ضروس، فإنه انصاع لتداعياته وتبعاته حتى وقوع الكارثة، ولم يمنعه ذلك التقدير الصائب من خوض غمارها، دون أن يكلف نفسه عناء السؤال: لصالح من تُشن هذه الحرب اللعينة؟! وبدا وكأنه يسير في اتجاه معاكس تمامًا لقناعاته الراسخة، مما يشير إلى أنه ملتزم بموقف يكرهه، وأنه مجرد أداة قسرية لا حول لها ولا قوة في هذه الحرب، وأنه قد أُقنع بها وانخرط فيها بدفع من قوى خارجية، الأميركيين والأوروبيين وأهل الرباعية والثلاثية والمبعوث الأممي السابق فولكر بيرتس، وفقًا لسياق الخطاب.

ومما يؤكد هذه الفرضية، اتهامه الصريح، ولأول مرة، لشركائه الأجانب بدفعه إلى هذه الحرب المهلكة والتخلي عنه في منتصف الطريق، فهو يوجه إليهم اللوم والتوبيخ بحدة، متسائلًا: "لماذا دفعتموني إلى الحرب إذا كنتم ترضون بعودة الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني؟ ولماذا إذن دمرتم بلادنا إذا كنتم ستتراجعون عن دعمنا للقضاء على الحركة الإسلامية؟".

ويبدو جليًا أن أمله في استمرار دعم من وقفوا إلى جانبه في هذه الحرب قد بدأ في التلاشي، إن لم يكن قد انقطع تمامًا. ولهذا، انطلق في توجيه سهام اللوم والتوبيخ إلى دول طالما دعمته وانتظرت لحظة انتصاره، وهذا يعكس بجلاء مدى اليأس الذي يعتريه، ويكشف عن مفارقة صارخة مع معظم داعميه، إن لم يكن جميعهم.

وقد تفاجأ الرجل ربما بموجات الانتقادات والإدانات التي تنهال عليه من المنظمات والصحافة الغربية بسبب سلوكيات قوات الدعم السريع في الحرب، على الرغم من علمه المسبق بأن هذه الدول هي التي دفعته إلى الحرب عبر الاتفاق الإطاري، وتجاهلت تحذيراته بأن هذا الاتفاق بمثابة وصفة جاهزة للحرب. والسبب في ذلك هو عدم إلمام الرجل بقواعد اللعبة الدولية، فعندما كان يحذر من حرب سيشعل فتيلها الاتفاق الإطاري، ظن أن القوى التي تقف خلفه تجهل مآلات الأمور وتطوراتها، لكنه لم يدرك أن من قواعد اللعبة دعم الحرب الخاطفة المنتصرة، القادرة على إعادة ترتيب الأوضاع بما يتماشى مع مصالحهم، أما الاستمرار في دفع فاتورة حرب بدأت تظهر مؤشرات نهايتها من حيث الربح والخسارة، فضلًا عن تكلفتها الإنسانية الباهظة، فهذا ما لا يبدو منطقيًا أو مقبولًا حسب قواعد اللعبة.

This grab from video shows smoke rising over Khartoum, Sudan on Thursday Sept. 26, 2024, after Sudan’s military started an operation to take areas of the capital from its rival, the paramilitary Rapid Support Forces. (AP Photo/Rashed Ahmed)
الدخان يتصاعد فوق الخرطوم يوم 26 سبتمبر/أيلول 2024 (أسوشيتد برس)

والخلاصة هنا أن الرجل قد أدان بنفسه مجمل سلوكه السياسي بالاندفاع في حرب كان يعلم علم اليقين، قبل اندلاعها، أنها حرب مُصطنعة، وفضح صانعي الاتفاق الإطاري ومؤيديه، أولًا بتصريحه بأنه كان مصممًا على تفجير الحرب، وثانيًا بما يراه تخليًا عن دعمهم للحرب بهدف إفشال محاولات الحركة الإسلامية للعودة إلى السلطة. وربما أراد من خلال هذا الفضح والتقريع ابتزازهم لحملهم على الاستمرار في دعم الحرب.

طغت على خطاب الرجل نزعة عنصرية بغيضة بلغت ذروتها، فهو يلوم عضو مجلس السيادة، إبراهيم جابر، ليس لأنه لم يقف معه انطلاقًا من قناعات سياسية مشتركة، كما يقتضي المنطق والموضوعية، بل لأن جابر -حسب نص حميدتي- "لم يراعِ رابطة الدم، أي العلاقة القبلية التي تجمعهما، ولم يقدر الخدمات الجليلة التي قدمها له حميدتي".

وأعتقد جازمًا أن إبراهيم جابر قد تنفس الصعداء، وابتسم في ارتياح عميق، بعد هذا الخطاب الذي برأه من تهمة الولاء لقوات الدعم السريع، بسبب رابطة القربى التي تجمعه بحميدتي. كما أن الخطاب قد اندفع في هوجة عنصرية أشد وطأة، أعاد بها تدبير الحرب وإدارتها إلى قبيلة الشايقية، دون أن يدرك ما أضفاه على هذه القبيلة من فضل عظيم، إذ استطاعت، بمفهوم كلمات الخطاب، أن تجر وراءها كل الشعب بعدالة وموضوعية دعم الجيش، وحققت بهذا التحشيد، الذي شمل كل أهل البلاد، هذه النتائج الموجعة له.

والوسام نفسه الذي علقه على جبين قبيلة الشايقية، حظيت به الحركة الإسلامية، بقوله إنهم "يقاتلون أنصار الحركة الإسلامية منذ بداية الحرب، وإن المقاومة الشعبية هي الحركة الإسلامية". وأبدى أسفه لقدرة هذه الحركة على إقناع المجتمع الدولي بأن ما جرى في 15 أبريل/نيسان 2023 ما هو إلا انقلاب من قوات الدعم السريع على الجيش.

بالطبع، إذا صدق الناس أن القوة التي وقفت خلف الجيش هي الحركة الإسلامية، وحقق بها الجيش هذه الانتصارات المتقدمة في الحرب، والتي اقترب بها من حسم المعركة لصالحه، فإن هذه الحركة ليست فقط جديرة بحكم السودان، بل إنها تتمتع بتأييد شعبي ساحق وغير مسبوق في البلاد. وهذا ما يستدعي القوى التي أسست للاتفاق الإطاري، دوليةً وإقليميةً، والذي أفضى إلى الحرب، بحسب زعم حميدتي، ليس فقط إلى التراجع عن الاتفاق الإطاري شكلاً ومضمونًا، بل إلى التواصل والتفاوض مع الحركة الإسلامية، باعتبار استحالة تجاوزها في الواقع السوداني، بعدما كان الهدف من الاتفاق الإطاري هو تكريس عزلتها.

خريطة للسودان موضح عليها مدن عطبرة، بورتسودان، الخرطوم،كسلا، القضارف، دنقلا ومروي
خريطة للسودان (الجزيرة)

وعلى أي حال، فإن التفاف الجماهير حول الجيش يمنح من يساندونه شرف صواب الموقف من التاريخ، وبوصف حميدتي لهذه الحركة بأنها مناصرة للجيش، بل وفي مقدمة مقاتليه، فقد أعاد تموضعها في مكانة تستحق التقدير والاحترام الشعبي.

أما النتيجة السياسية لتأكيد حميدتي أن الاتفاق الإطاري هو ما أشعل فتيل الحرب، فتضع الرجل في مواجهة مباشرة مع قوى الحرية والتغيير ونسختها الجديدة "تقدم".

وبهذا التصريح، تصدع الموقف الذي كان يجمع بينهما، وهو إنكار مسؤولية الإطاري عن الحرب، وانفصمت العلاقة الوثيقة التي كانت تربطهما. فالاعتراف بأن الاتفاق الإطاري هو الذي تسبب في اندلاع الحرب يضعه في خندق واحد مع الحركة الإسلامية والقوى الوطنية الأخرى التي تشاركه التحليل ذاته بشأن مسؤولية الإطاري عن الحرب. وبالتبعية المنطقية، يفرض عليه ذلك ضرورة التراجع عن الاتفاق الإطاري سياسيًا، والتراجع عن الحرب كنتيجة منطقية لإدراكه المبكر لخطأ خوضها دفاعًا عن الاتفاق الإطاري.

إذ كيف يستقيم عقلاً الاقتناع بأن الاتفاق الإطاري هو الذي أشعل الحرب، والاستمرار فيه كمشروع سياسي، ومواصلة الحرب التي أنتجها، إلا إذا كانت تلك بالطبع حالة تجسد ضعف الخبرة السياسية الذي شكا منه حميدتي في بداية دخوله عالم السياسة بعد سقوط نظام الرئيس البشير.

وبنفس طريقة التفكير، فقد الرجل مصر، ورفع عنها سيلاً من اللوم والتأنيب من الرأي العام السوداني، بسبب ما اعتبره تخليًا عن السودان، وعدم تقدير للعلاقات الأخوية الودية، ولا لتقديرها الاستراتيجي، باعتبار السودان مجالها الحيوي وأهم عناصر أمنها القومي. وبفضل خطاب حميدتي، انقلب اللوم إلى تقدير شعبي للدور المصري، ليس فقط لتعاطفه، بل لخوضه الحرب في أعلى مستوياتها وبأقوى أسلحته، فالطيران المصري يضاهي نظيره السوداني في دقة إصابة الأهداف التي يحددها الجيش السوداني، بحسب زعم حميدتي. وبموجب مزاعم الرجل عن الدور المصري، سواء صدقت أم لم تصدق، هدم حميدتي جدرانًا من الشكوك والريبة بين مصر والسودان، خاصة في بعدها الشعبي، كانت تقيمها الكثير من الشكوك والظنون.

نشر الجيش السوداني ، بصفحته بفيس بوك ، صورا قال إنها لمركبات ومعدات قتالية تستعرضها قيادة سلاح المهندسين ، التابع للجيش ، كان قد استولى عليها من قوات الدعم ، في المعركة ، التي دارت بينهما ، الاسبوع الماضي ، واستطاع الجيش من خلالها ، أيضا ، الاستيلاء على مقر الإذاعة والتلفزيون بمدينة إم درمان . المصدر : الجيش السوداني ، بصفحته بفيس بوك
صور لمركبات استولى عليها الجيش السوداني من قوات الدعم السريع (وسائل التواصل الاجتماعي)

سعى حميدتي في خطابه، بنبرة متأرجحة بين النفي والاعتذار والقلق، إلى نفض تهم التعدي والقتل والنهب وانتهاك الحرمات والاغتصاب الملتصقة بقوات الدعم السريع، لكن ذلك لم يعد مقنعًا، خاصةً للسودانيين قاطبة، ولن يمحو شيئًا من بشاعة صور قتلى قرى ولاية الجزيرة (ود النورة، وقوز الناقة، والعنداب) وغيرها، أو ما حدث في قرى مثل جلنقي، وشرق الدندر في ولاية سنار. ومع الشعور العميق بخسارة الحرب، أعلن حميدتي عن الخطة "ب"، وطالب مناصريه الذين غادروا ساحة القتال بالعودة العاجلة، وتوعد بتحشيد مليون جندي استعدادًا للمرحلة الجديدة من الحرب.

يصعب الخوض في تحليل خطاب حميدتي بمنهج سياسي بحت، وربما يكون الأجدى التوجه نحو السياق النفسي لفهم مستجدات خطاب قائد الدعم السريع، إذ إن لغة الجسد، ونبرة الصوت المرتجفة، واضطراب المحتوى، دون إدراك للمآلات المنطقية، تنم عن غضب مكبوت، وشعور عميق بالخذلان من أولئك الذين دفعوا باتجاه الحرب، وتنفيس عن احتقان نفسي يعبر عن اعتراف بنهاية مأساوية لمغامرة الحرب، لكن ظاهر التعبير إنكاري، يحمل في طياته مزيجًا من الاعتراف بالهزيمة، وتجنب مواجهة مشاهدها المروعة، وإصرار على المضي قدمًا في طريقها نحو المجهول.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة